الأربعاء، 18 أغسطس 2010

الاحلام والمستقبل - بقلم الدكتور فلاح الشمري - بغداد

"الأحلام والمستقبل"

بقلم : الدكتور فلاح الشمري – بغداد

منذ ان بدأ الانسان يتأمل ظاهرة الاحلام في نومه , ولعله بدأ ذلك منذ بداية الخليقه , رأى في احلامه واقعاً يختلف عن واقع يقظته , غير انه لم يتشكك في واقع وحقيقة ما عرض له في نومه , بل على العكس أعتبره واقعاً وحقيقه أعظم , واستجاب له بتقيد ومطاوعه تزيد على ما يستجيب له عادة لما يجري حوله من حوادث . وتفسير هذه النظره التخيليه للأحلام يعود الى معتقده بأنها صادره عن فعل إرادة قوه خارقه وغير طبيعيه مما لا يستطيع ردها او الاعتراض عليها . ومع انه فسر هذه القوه الخارقه في بعض الأحيان بأنها من فعل الشياطين او الارواح الشريره , الا انه في الكثير من الاحيان رأى فيها فعل الآلهه , والتي تفرض نفسها في أحلامه لغرض او آخر , ومن هذه الأغراض تأنيبه على اغفال التكفير عن ذنب أتاه أما بحق الناس أو بحق الآلهه , ودعوته الى الاسراع في ذلك , ومنها انذاره بعواقب منتظره اذا لم يحاذرها بالتدابير اللازمه , واخيراً انباءه بما سيأتي به المستقبل القريب او البعيد له او لغيره من الناس , وهذا الغرض الأخير للأحلام هو الذي استحوذ على اهتمام الناس في الحضارات البدائيه والحضارات العريقه المتتاليه لآلاف السنين , والذي ما زلنا متأثرين به ولو بقدر ما حتى في عصرنا الحاضر .

ان تاريخ البشريه حافل بالبينات التي تفيد باعتقادات الناس بان الاحلام تنبئ بالمستقبل خيراً او شراً , سواء كان الإنباء قاطعاً لايقبل الجدل , او كان تحذيراً يمكن تلافيه بمطاوعة ما يقتضيه التحذير , ومن هذه البينات ما جاء على شكل أساطير او روايات فولكلوريه او نصوص تاريخيه او معتقدات متوارثه من جيل الى جيل , ومنها ما نشاهده في معتقدات الاقوام البدائيه والتي لم تتصل بالحضارات المتعاقبه منذ عصور ما قبل التاريخ , وهنالك الكثير من الروايات المعاصره والحاليه والتي تدلل على ان هنالك من الناس من مازال يؤمن بأن الاحلام تكشف عن المستقبل , ولعل هذا الاعتقاد هو أكثر من أي معتقد آخر حول معنى الاحلام , هو الذي دفع الناس من خاصه او عامه للسعي الى تفسير الاحلام لعلهم يجدون فيها مايمكن ان تنبئ به عن المستقبل , لعله يكون بالامكان تدارك ما سيقع بوسيله او اخرى من الحيطه والالتماس والتوسط والتكفير والاستغفار وغيرها من الوسائل المتاحه للانسان في علاقته مع القوى المسيطره على احلامه وعلى مصائره .

ولقد اختلطت الروايات مع الأساطير العقليه في التنويه بأهمية الاحلام كمؤشرات لما سيأتي به المستقبل , والأصل في الحالتين هو الاعتقاد بأن ما يعرض للفرد في حلمه هو من فعل قوه عظيمه , ولعل هذا الاعتقاد كان له أثره ليس في التصديق بالاحلام فقط , وإنما ايضاً في تكوين المعتقدات الدينيه الاولى في حياة الإنسان , إذ ليس هنالك في حياة الفرد من تجربه اكثر عجباً وغرابه من تجربة الأحلام , ثم انها التجربه الوحيده التي مكنت الفرد من الاتصال بما هو غير منظور في يقظته , وهي القوى العظيمه والهائله التي تسيطر على مصيره والتي طالما حاول التوصل اليها عبثاً في يقظته , ولهذه لم يكن عجباً ان الانسان في الحضارات القديمه كلها قد آمن بأحلامه , وبكونها وسيله لكشف المستقبل وما سيحدث فيه ... ففي حضارات مابين الرافدين القديمه كلها سادت مثل هذه المعتقدات , وفسرت الأحلام بأنها انباء بالمستقبل تخبر به الآلهه الحالمين بها , وكان منها ما هو متعلق بالموت والحياة , والحرب والسلم , واليسر والعسر , والصحه والمرض , والسفر والعوده , والنصر والهزيمه , والإثم والثواب , والخصب والبوار , والفيضان والجفاف , وغيرها من المتضادات والتي تتكون منها تجارب الانسان وتقرر مستقبله , فحلم آشور بانيبال دفعه الى محاربة العيلاميين مطاوعه لأمر من ربه عشتار , وهو إله الحرب والخصب , وبأن يفعل ذلك , وحلم نبوخذنصر وفسر حلمه بأنه سيفقد عقله .

وفي الحضاره الاغريقيه سادت معتقدات مماثله عن نبوءة الأحلام ففسرت الظواهر الطبيعيه في الأحلام بأنها تنذر وتبشر بما سيحدث في المستقبل , وشيدت الهياكل العديده في أنحاء اليونان لتفسير الأحلام من كهنه أختصوا بذلك , وأطاع الأصحاء والمرضى على حد سواء ماتضمنته الاحلام من تعاليم وتوقعات , ففي الأدوسي للشاعر الأسطوري هومر ظهرت الآلهه أثينا للفتاة الشابه (نوزيكا) على شكل صديقه للفتاة , وطلبت اليها ان تتخلى عن عزلتها وان تتوقف عن اهمال نفسها وهندامها , وحثتها على ان تقوم بجمع ملابسها في اليوم التالي وان تذهب لتنظيفها في بركة الماء , ففعلت ما وجهها اليه الحلم , وهنالك التقت بالذي قذفته العاصفه وهواوديسوس , وتزوجا . ومثلها ما سعى اليه أخليس في حرب طرواده , في طلب الهدايا في الحلم لمكافحة الوباء في جيشه .

وفي الحضاره الرومانيه روي بأن الامبراطور اوغسطس راح يستجدي العطاء لأنه طلب اليه فعل ذلك في حلمه , وقد جاء ايمانه العميق بالاحلام نتيجة لأنقاذ حياته عن طريق حلم احد اصدقائه والذي حذره فيه من الخطر المحيط به .

وفي الحضاره المصريه الفرعونيه الكثير من الروايات عن احلام الفراعنه ودلالاتها المستقبليه , ولعل اهمها هو حلم فرعون الذي فسره يوسف عليه السلام . ولعل الفراعنه كانوا اكثر من غيرهم ايماناً بما ترمز اليه الاحلام ودلالاتها المستقبليه , وقد امتد هذا الاعتقاد الى عامة الناس , ومن اجل تفسير هذه الرموز الحلميه أنشئت المعابد الخاصه عبر البلاد بكاملها لهذا الغرض .

وفي التوراة , كما كتبت (وقد كتبت اكثر من مره) نجد بأنها خصت الاحلام بأهتمام عظيم , فقد شغلت الاحلام سبعين فقره منها , وكذلك التلمود (الفلسطيني منه والبابلي) فانه يحتوي على الكثير من الاحلام , وقد تضمن التلمود البابلي اربعة اسفار عن الاحلام (الاسفار 55- 58) وقد انعكس هذا الاهتمام التوراتي والتلمودي بالاحلام على رجال الدين , فإنصرفوا الى تفسير الاحلام , ومن اقوال احدهم ما يدلل على ما حظيت به الاحلام من اهتماماتهم وذلك بقوله (إن الحلم الذي لايمكن فهمه , هو كالرساله التي لا تنفتح ) . ومما يقتضي ذكره ان النبي دانيال كان اكثر من اشتهر بتفسير الاحلام في زمنه وبحدوث الرؤيا له في احلامه , وقد فسر الكثير من الاحلام لملوك بابل , ومنها حلم نبوخذنصر والذي فسره بأن نبوخذنصر سيصاب بالجنون , كما انه استطاع ان يستعيد حلم نبوخذنصر الذي نسيه نبوخذنصر نفسه , وان يفسر محتواه , كما قام بتفسير احلام ملوك الفرس ومنهم داريوس وكورش . ومما يلاحظ هو ان الإنجيل لا يحتوي على أي إشاره الى احلام السيد المسيح عليه السلام , اما القرآن الكريم , فقد تضمن الإشاره الى حلم النبي يوسف عليه السلام وتفسيره لحلم فرعون , وفي الحالتين تدليل على تشوف الاحلام للمستقبل وإنذارها او تبشيرها بما سيأتي .

تبين الدراسات الأنتروبولوجيه للكثير من الاقوام البدائيه بان احلام هذه الاقوام تحمل انباءً مسبقه للمستقبل , من مرض او مصيبه , وقد ترك للطبيب البدائي امر العمل على درء هذه المصائب بطريقه او أخرى من الطرق المعروفه في الحضاره التي ينتمي اليها الحالم والطبيب , وقد افادت احدى هذه الدراسات بأن الفتى او الفتاة يصبحان مؤهلين للحلم على شريطة ان لا يكونا قد مارسا العمل الجنسي بعد , وعندما يقوم الواحد منهما بالصوم لثمانية او عشرة ايام , ثم الصلاة طلباً لظهور رؤيا من قوى مافوق الطبيعه , ونتيجة ذلك هي ظهور الحلم الذي ينبئ بمستقبل الحالم . ومن احلام احد الاقوام (اوجلالا سيوكس Oglala Siox ) , ان الفتى قد يواجه في حلمه بإختيار

صعب , فهو قد يرى القمر بذراعين واحد يحمل قوساً ونشاباً , والثاني يحمل رباطاً (شيالا) للحمل , وعليه ان يختار احدهما , وقد يساهم في إرتباكه ان تتقاطع يداه , فإذا اختار من بين اليدين المتقاطعتين تلك التي تحمل رباط الحمل فقد قدّر له ان يعيش ما تبقى من حياته كامرأة , وعليه أن يتزوج رجلاً وأن يقوم بعمل المرأة , ويسمى مثل هذا المستخنث (برداخي) , غير ان الانتحار قد يكون الوسيله الوحيده للتخلص من مثل هذا القدر الذي أنبأ به الحلم عن مستقبله .

وفي العصور الوسطى في اوربا ظل الاعتقاد قائماً بأن الرب او القديسين , قد يظهرون في احلام الناس , غير ان باب الاحلام ظل مفتوحاً ايضاً لزيارة الشياطين المتخفين على شكل او آخر , مما له ان يربك الحالم , وهو ما دعا مارتين لوثر الى الصلاة طالباً من الله ان لا يتحدث له في احلامه . وفي العصور الحديثه استمر الاعتقاد في بعض الاوساط بان الاحلام تنبئ بالمستقبل , ومما يذكر في هذا الشأن ان ابراهام لنكولن قد حلم بموته , وقد اعتبر حلمه تنبؤاً باغتياله الفعلي . لقد كان من الطبيعي ان تظهر عبر التاريخ بعض الآراء التي تعارض الأعتقاد السائد برؤيا الاحلام عن المستقبل , وهنالك من البينات بأن بعض الناس وبعض الحضارات والاقوام كانت اكثر او اقل من غيرها إيماناً بهذا الاعتقاد وإستجابه لمقتضياته , ومن الذين بحثوا في هذا الموضوع او فندوا مستقبلية الاحلام هو الفيلسوف أرسطو والذي بين معارضة لهذه النظريه في واحد من ثلاث كتبه عن الاحلام وهو كتاب عن النبوءة في الاحلام , وكان من رأيه ان ما يبدو في الاحلام كرؤيا للمستقبل ماهو في الواقع الإّ من فعل الاحلام ذاتها على الفرد في حالة اليقظه , فلهذه الاحلام ان تكون بمثابة البدايه لأفكار اليقظه , كما ان لها ان تؤثر على سلوك الفرد بحيث يأتي مشابهاً لما ورد في الحلم , ولهذا ان يفسر خطأ بأن الحلم تنبأ بالمستقبل فعلاً .

وفي الاسلام , نجد بان القرآن الكريم بينما اورد الاشاره الى رؤيا الانبياء , او تفسيرهم لمثل هذه الرؤى في النوم , بأنه نهى عن السعي الى تفسير الاحلام تفادياً لأختلاط الرؤيا بالاضغاث من احلام الناس . وفي العصور الحديثه قام من يفند مستقبلية الاحلام , ومن هؤلاء جون وزلي John Wesley , والذي من رأيه ان (الحلم هو قطعه من الحياة , كسرت من جانبيها, لا تتصل بشيء , لا بالجزء الذي كان من قبل , ولا بالذي يتبع من بعد , .... انها اشبه بالفاصله ادخلت في الحياة ....) .

وقد تناول فرويد بإختصار هذا الموضوع , ذلك انه لم يكن من المؤمنين بمستقبلية الاحلام بل على العكس تماماً رأى فيها تعبيراً عن الماضي الطفولي المكبوت , وهو يقول في الفقره الختاميه من كتابه (تفسير الاحلام) , مايلي : ( ثم ماذا عن فائدة الاحلام فيما يخص معرفتنا للمستقبل ؟ ان ذلك بطبيعة الحال محال , ان الواحد يرغب في استبدال (فيما معرفتنا للمستقبل) بالكلمات : (فيما يخص معرفتنا بالماضي ) , ذلك انه من كل جانب , فإن الحلم له اصوله في الماضي . ان المعتقد القديم بان الاحلام تكشف عن المستقبل هو حقاً ليس بالقول الخالي كلياً من الحقيقه , فالحلم بتمثيله للأمنيه وقد تحققت , فأنه بالتأكيد يقودنا نحو المستقبل , غير ان هذا المستقبل الذي يتقبله الحالم بأنه واقعة الحاضر , إنما قد تكوّن على شبه الماضي بفعل الأمنيه التي تفنى ) , وللقارئ ان يجد شبهاً بين رأي كل من أرسطو وفرويد , وأن كان رأي أرسطو يبدو اكثر ديناميه, فهو يعطي للحلم فعلاً إستمراريه في حياة اليقظه , وهو عكس فرويد يجد الفعل في خلق المستقبل على شبه الحلم , لا خلق الحاضر على شبه الماضي .

الدكتور / فلاح الشمري – بغداد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق